الأحد، سبتمبر ٠٤، ٢٠٠٥

فرق تسد


يبدو أن سياسة فرق تسد تأتي بعد مرحلة فرق تغزو، لأن استعباد شعب ما والاستيلاء على أراضيه وثرواته يتطلب أولاً إنهاك قواها العسكرية والاقتصادية لغرض تسهيل العملية وتقليص تكاليفها. وهذا يتم عادة من خلال إثارة الفتنة الطائفية والتحريض على العنصرية ونشر روح الانتقام بين الطوائف والطبقات المكونة لهذا الشعب وإشعال حروب داخلية وخارجية تنتهى بإنهاك قوى كافة الأطراف. والعراق منذ تأسيسه فى بداية عشرينات القرن الماضي ولحد الآن يشكل مثالا ميدانيا لهذا السياسة الاستعمارية بحيث يمكن استنباط صحة نظرية فرق تغزو من هذه التجربة العراقية.فإن الاستعمار البريطانى في بداية تأسيسه لهذه الدولة اعتمد على الطائفية كما جاء من رسائل المسز بيل عميلة المخابرات البريطانية التي لعبت الدور الرئيسي في تأسيس الدولة العراقية ورسم حدودها الدولية بشكلها الحالي. هذا الأساس الطائفي وطريقة رسم الحدود ما كان إلا أن تؤدي إلى نشر الكراهية بين الطوائف الدينية والعرقية والمذهبية في العراق وإشعال حروب ونزاعات داخلية وخارجية مستمرة.وفعلا نجحت سياسة فرق تغزو إذ انغمس العراق فى حروب داخلية وخارجية مع بعض دول الجوار لعدة عقود أنهكت قواه العسكرية والاقتصادية، وثم تم فيما بعد وكنتيجة لهذه الحروب فرض حصار على العراق كان هدفه الرئيسي إنهاك قوى الشعب العراقى من خلال الجوع والمرض، لكسر شوكة المقاومة في روحه وتدجين الإنسان العراقي للعيش في حياة العبودية كما خططت لها وتمهيدا لتحقيق خطة غزو العراق الذى أجل بسبب الحرب الباردة، وتم تطبيقها أخيرا عام 2003 لأن القوى الاستعمارية الطامعة في أرض وثروات العراق لم تكن تعتبر النظام العراقى السابق عرقلة في طريقها، لأن القدرة العسكرية لهذا النظام لم تكن فى يوم من الأيام تشكل خطرا على تحقيق خطة غزو العراق من قبل أعظم قوة في العالم، بل خوف هؤلاء كان من الشعب العراقي العريق بحضارته وحبه للحرية والكرامة وكرهه للمحتل.فالعراق هو ليس المثال الوحيد لسياسة فرق تغزو بل الإسرائيليون طبقوا هذه السياسة في لبنان منذ منتصف سبعينات القرن الماضي إلى أن قاموا بغزوها عام 1982 ليطردهم اللبنانيون فيما بعد شر طردة.والآن بعد تطبيق سياسة فرق تغزو بنجاح في العراق، جاء دور سياسة فرق تسد لإدامة هذا الغزو والاستيلاء على ثروات العراق واستعباد شعبه بأقل التكاليف البشرية والمادية.وسياسة فرق تسد ليست بسياسة جديدة بل هي قديمة قدم السياسة نفسها حيث طبقها السومريون والمصريون واليونانيون القدماء لتفكيك قوى أعدائهم وتحييد هذه القوى من خلال توجيهها داخليا واحدة ضد الأخرى.والاستعمار في شكله الحالي ومنذ نشأته في بداية سبعينات القرن التاسع عشر طبق هذا الأسلوب القديم في السياسة لنفس الأغراض والأهداف ومن أجل إضفاء الشرعية على احتلاله لبلد ما من خلال الظهور بمظهر الحكم المستقل الذي يفصل بين الأطراف المتنازعة في هذا البلد ويحافظ على الأمن والسلام. ويبدو أن هذه السياسة طبقت بنجاح في فترات معينة في التاريخ الاستعمارى.فمثلا سياسة فرق تسد هي السر وراء نجاح عدد قليل نسبيا من القوات البريطانية في الهيمنة على 300 مليون هندي لمدة أكثر من قرن من الزمن. نجح البريطانيون حينه في إقناع الهنود بأن وجودهم في هذا البلد هو ضروري لمنع الحرب الأهلية بين المسلمين والهندوس وبهذا نجحوا بإضفاء نوع من الشرعية على وجودهم في الهند ولو لمدة محددة. وهناك من يدعي هذه الأيام بأن وجوده ضرورى في العراق لإنهاء العنف ومنع النزاعات الطائفية. فما أشبه اليوم بالأمس! و كان للإنكليز قبل الهند تجربة طويلة مع سياسة فرق تسد إذ طبقوها في آيرلندا منذ عام 1692 حينما أصدروا قوانين منحوا بموجبها امتيازات للطائفة البروتستانتية على حساب الطائفة الكاثوليكية ثم استفادو من الدورس المستخلصة من هذه التجارب خلال حقبتهم الاستعمارية في أفريقيا وآسيا والشرق الأوسط من خلال إثارتهم للخلافات الدينية والعرقية والمذهبية والقبلية في المناطق المحتلة بحيث لم يكونوا بحاجة إلى بنادق للهيمنة على هذه الشعوب إلا نادرا ولاتزال هذه المناطق وإلى يومنا هذا تعاني من أثار سياسة فرق تسد هذه.والاستعمار أينما وجد يتصرف حسب منهج علمي ومدروس يشترك في إدارته العلماء من شتى مجالات علم النفس وعلم الإنسان والطب وكافة المجالات الأخرى المتعلقة بحياة الشعوب وعاداتها وتقاليدها لغرض تشخيص نقاط الضعف والحساسيات في شخصية هذه الشعوب واستغلالها من أجل الوصول إلى الأهداف الاستعمارية. وإذا أخفقوا في تشخيص نقاط الضعف هذه قاموا بإيجادها بصورة اصطناعية. فمثلا عند فشل الاستعمار البلجيكي في تشخيص خلافات طائفية بين الهوتو والتوتسي في رواندا لغرض استغلالها، قاموا بإيجاد هذه الخلافات بصورة اصطناعية حيث قاموا بإقناع طائفة التوتسي بأنهم متفوقون عرقيا على الهوتو بسب كون التوتسي ينحدرون من أصل أثيوبي ولذلك يحق لهم الحصول على امتيازات على حساب الهوتو وفعلا منحت لهم هذه الامتيازات وكما قامت السلطات الاستعمارية البلجيكية في نفس الوقت بإصدار هويات شخصية لمواطني رواندا يظهر عليها الانتماء الطائفي لحامليها. هذه الفتنة الطائفية التي أشعلها الاستعمار البلجيكي في رواندا انتهت بحرب الإبادة العرقية في رواندا فيما بعد.سياسة فرق تسد كانت تطبق حتى ضد شريحة من الناس متساوون فى الخصائص الرئيسية. فمثلا ضد طبقة العبيد التي يكون عادة أعضاءها متساوون في وضعهم القانوني كعبيد مسلوبي الإرادة يتم التعامل معهم كأنهم بضائع وذلك عن طريق تفضيل بعضهم على بعض من خلال تشغيل قسم منهم في المزارع حيث الأشغال الشاقة وتشغيل الموالين جدا للسادة كخدم في بيوت هؤلاء السادة. نفس هذه السياسة يطبقها الأمريكيون حاليا في العراق حيث يحصل المتعاونون مع الاحتلال الأمريكي على وظائف ومناصب مغرية في الدولة العراقية ويتم حرمان الآخرين الرافضين للتعاون مع هذا الاحتلال من مصادر الرزق أو حتى يجبرون على ترك العراق بما أن كل العراقين هم متساوون الآن في وضعيتهم القانونية كأعضاء لشعب مستعبد مسلوب الإرادة من قبل الاستعمار.من أهم مكونات سياسة فرق تسد هو إذن منح امتيازات لجماعة معينة على حساب جماعة أخرى وجعل الجماعة الأولى تعمل كل شئ من أجل الحفاظ على هذه الامتيازات بما فيه التعاون غير المشروط مع الاحتلال.ولعل سياسة فرق تسد فى منهجها وأساليبها وتطبيقها وجدواها في يومنا هذا يمكن دراستها على أحسن حال في الحالة العراقية.

ليست هناك تعليقات: